مقالات

“العربي” عبد الغفور هذا العصر

بقلم محمد سري

 

كثيراً منا لا يؤمن بالنماذج الناجحة التي تعرضها الأعمال الدرامية، خاصةً تلك التي تعرض قصصاً لأشخاص كانوا بسطاء واصبحوا من كبار التجار أو رجال الأعمال، ولعل من تلك الأعمال التي حققت نجاحاً كبيراً ورواجاً واسعاً في الأسواق بجميع الدول العربية العمل الدرامي “لن أعيش في جلباب أبي”، الذي أُنتج عام 1996، وكان من بطولة الفنان الراحل نور الشريف والفنانة عبلة كامل، ومن إخراج أحمد توفيق، وهذا العمل هو في الأصل مأخوذ عن رواية للكاتب إحسان عبد القدوس .

محمد سري كاتب المقال
محمد سري كاتب المقال

هذا العمل الذي يعرض قصة ناجحة لشخصية بسيطة جداً تدعى “عبد الغفور البرعي” الذي لا يجيد القراءة والكتابة، لكنه بدأ حياته عاملا في مخزن خردة تابع لأحد التجار بوكالة البلح، واستطاع باجتهاده وأمانته أن يحظى بثقة صاحب المخزن، ولكن لم يمنعه حبه والثقة التي اكتسبها من صاحب هذا المخزن من أن يحقق حلمه ويصبح تاجراً، فاستقل بعمله ببيعه “الخردة” في وكالة البلح، حتى أصبح له وكالة خاصة به، وبنى لنفسه مصنعاً كبيراً، حتى أصبح من كبار التجار ورجال الأعمال في تجارة “الخردة” .

 

وهذا العمل الدرامي على الرغم من نجاحه لعرضه قصة لشخصية بسيطة استطاعت أن تصنع لها سلماً لتصعد عليه وتبني لنفسها مجداً بين أمجاد الآخرين، إلا أن الكثيرين منا يقول “أن هذا لا يحدث إلا في الأفلام والمسلسلات”، ولكن أقول لهم أن المجتمع المصري ملئ بهذه القصص الناجحة وإذا فتنشنا في دفاتر مجتمعنا لوجدنا شخصية مشهورة جداً بيننا وستظل خالدة في أذهان الجميع، تلك الشخصية هي الحاج “محمود العربي” رحمه الله رحمةً واسعة واسكنه فسيح جناته، الذي رحل عن عالمنا الخميس  9 سبتمبر 2021، فإذا نظرنا إلى مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي” وقصة رجل الأعمال الناجح “الحاج محمود العربي” وربطنا بينهم لوجدنا فيهما روابط وأوجه تشابه كثيرة، فالحج “محمود العربي” الذي ولد عام 1932 بقرية أبو رقبة مركز أشمون بمحافظة المنوفية، تعلم القرآن الكريم وهو في سن ثلاث سنوات في الكُتاب، ولم يلتحق بالتعليم بسبب ظروف والده الاقتصادية .

 

ولعل من القواسم المشتركة بين العمل الدرامي السابق وقصة الحاج “محمود العربي” حياته العملية التي بدأها وهو في الخامسة من عمره كبائع للعب الأطفال التي كان يشتريها بمساعدة أخيه قبل كل عيد بأمواله الخاصة التي كان يدخرها، حتى انتقل إلى القاهرة ليعمل بائعاً في محل ما، وكان راتبه وقتها 120 قرشاً شهرياً، وبعد 7 سنوات وصل أجره إلى 3.20 جنيه، ثم عمل بائعاً في محل تجارة بالجملة براتب 4 جنيهات، وبعد أنهى خدمته العسكرية افتتح محله الخاص بالموسكي بالشراكة مع ممول مقابل 50% من الإيرادات للشريك، وبدأ برأسمال 4 آلاف جنيه، ليفتتح بعدها شركة متخصصة في الأدوات المكتبية بالشراكة مع عائلته وأخوته، ولكن تحولت هذه الشركة لبيع ما يتم عرضه في الأسواق من منتجات، والتي كانت من ضمنها الأجهزة التلفزيونية، وشهدت التوكيلات التجارية خلال عام 1975رواجاً واسعاً في السوق المصري على يد الحاج “محمود العربي” عندما سافر إلى اليابان التي كانت في ذلك الوقت رائدة الصناعة وحصل منها على توكيلات للأجهزة المنزلية في مصر .

ولم تتوقف أحلام وآمال “العربي” عند هذا الحد بل كان سقف طموحه عالياً أو نكاد نقول أن طموحاته لم تجد لها سقفاً من الأساس، فلم يرغب في أن يكون تاجراً لبضاعة أحد، بل أراد أن يكون مصنعاً وتاجراً، فافتتح علامات تجارية عالمية لم تكن لتحظى بمثل هذا في مصر لولاه، فهذا الرجل حرص كل الحرص على أن يكون ترساً في عجلة الإقتصاد المصري، وساهم في رفع شأنه فبنى مصنعاً له على مساحة 3 أفدنة في بنها، وعمل جاهداً حتى حصل في أواخر السبعينات على عقد تصنيع محلي بنسبة 40% للمراوح والشفاطات والمسجلات والتلفزيونات التابعة لشركة توشيبا اليابانية، حتى بنى لنفسه ثقة أصيلة متأصلة في نفوس الناس، ليؤسس بمصانعه وشركاته إمبراطورية “توشيبا العربي” التي لا يكاد أن يخلو منزلاً واحداً من أجهزتها .

 

شهبندر التجارأو شيخ التجار الاسم الذي يطلق على الحاج “محمود العربي”، لم يطلق عليه من فراغ بل كان نتاج كد واجتهاد على مدار أكثر من 50 عام، ساهم خلالها بشكل كبير في الصناعة الوطنية، وصعدت على أكتافه علامات تجارية عالمية في مصر، بل وحققت هذه العلامات مكاسب طائلة بفضل جهده وذكائه وخبرته وحبه للتجارة، فلولا هذا التاجر لم تكن لتحظى هذه الشركات بمثل هذا النجاح، وإذا تأملنا أسرار ذلك لوجدنا وراءه عدة صفات كحبه لربه وطاعته له، وسعيه في الخير دائماً، وتواضعه فكان لا يحب تسمية نفسه بـ”رجل أعمال”، بل كان يفضل لقب “تاجر”، فضلاً عن حبه للناس، ومساهمته في بناء وطنه وتغليب مصلحة بلده على مصلحته الشخصية، كل هذه الصفات هي كانت أساس عمله ومبادئ إمبراطوريته التي أسسها، والتي هي في أساسها صفات الشخصية المصرية الأصيلة تجمعت في شخص واحد، دون أن تشوبها أي من صفات الخلطاء الغرباء .

 

هذا الرجل الذي عاهد الله ألا يجعل المال في قلبه بل في يده وبقى على عهده، فأنشأ مؤسساته الخيرية التنموية التي لا تغلق بابها في وجه فقير أو طالب مساعدة، ولا تتردد في المشاركة في أي عمل خير، فبقى على عهده حتى فارق الحياة، هذه هي الدنيا..وهذه هي سنتها .. فقد رحل شهبندر التجار..رحل عن عالمنا بجسده، ولكن ستظل سيرته العطرة حاضرة في أذهان العالم وذاكرة التاريخ، ولتترك لنا مثالاً ونموذجاً عملياً صالحاً يُقتدى به .

 

 

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock