غير مصنف

القانون بين إيدلوجيات الماضي ومأزق العصرنة والحداثة د.عبدالله المفرجي

تختزل طائفة كبيرة مهمة دراسة القانون في عالمنا العربي والإسلامي في دخول أروقة المحاكم، سواء كان ذلك عن طريق تبوؤ الوظائف القضائية أو تلك النظيرة للقضاء أوالمساعدة للارتقاء بمحاريب العدالة، لتكون سدنة القانون وحراس العدالة، وحقيقة الأمر أن القانون والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمعارف العلمية الأخرى تقدم رؤية شاملة لما يحدث في كيان الواقع العملي المعيش، فدراسة القانون والفلسفة السياسية والاقتصاد السياسي يوفر للدارس مهارات التفكير السابر والتفكير الإبداعي، وأساليب حل المشكلات المتنوعة بطرق إبداعية واحترافية من خلال تحليل عميق للوقائع والمحاولة في الجمع بين دلالات النصوص القانونية والتتبع التأريخي للظاهرة القانونية في محاولة لفهم مقاصد المشرع من إيجاد تلك النصوص بهاتكيم الصيغة الجامعة المانعة لتقول لو أراد المشرع ذلكم التفسير وذاك التأويل لما أعجزه النص، فطالب القانون ينبغي أن يمتلك مهارات تتعلق بالجدل والبحث والقراءة التحليلية والتنظير، والقدرة على التساؤل المستمر، و الاستنتاج، والتي تدرب الدارس على العقلية المستعدة لتقديم حلول للوقائع المختلفة التي قد تعصف بالمجتمعات، بيد أن غياب تلك الملكات في طالب القانون قد يولد التأثير العكسي على مخرجات سوق العمل، فيؤدي ذلك لوقوع الخلل في المرجعية والهوية، أو القدرة على التوجيه أو التوظيف الأمثل لتلك العلوم الإنسانية بما يحقق مخرجات قادرة على تحمل المسؤولية الملقاه على عاتقها، وهنا نوجز بعض الأسباب التي أدت إلى الوقوع في هوة الخطر، ولعل أهم العوامل التي أدت إلى هذا المؤشر الخطير، هما أزمة التوظيف والهوية، واللتان أثرتا على مجريات تدريسه في الجامعات، فمناهجنا القانونية تعتمد على الرصيد الغربي في تدريس القانون وتعليم الممارسات المختلفة له، ولا سيما القانون الفرنسي والذي يظهر جليا واضحا في أغلب مقررات القانون الإداري، وكذلك إلى حد كبير تم الاعتماد على المنهج الإنجليزي والأمريكي، ونحن هنا لا ندعوا إلى قطع الصلات بالمعرفة الغربية، والاستفادة من معطيات الحضارة الحديثة ولكن لا بد أن يكون لنا هوية واضحة في مناهجنا تجعلنا لا ننصهر مع الثوابت والمتغيرات فلا بد من تلاقح الأفكار وتمازج المعارف الإنسانية ليلتقي الماء على أمر قد قدر.
وفي الجانب المقابل نجد تبعية سلطوية في مناهج تدريس القانون، وإبراز مسار حركته العلمية.
فأما عن أزمة الهوية فلا بد من مراعاة معالجة القانون الموضوعات والقضايا التي يحتاجها المجتمع، فالقانون كما يعرفه بعض الفلاسفة ما هو إلا عادات تنمو وتتطور بين أفراد المجتمع حتى ترسخ في الأذهان، ويشعر أفرادها بحاجة ماسة إلى تقنينها، بيد أن واقع دراسة القانون في بعض دورنا التربوية الحديثة أضحت تعالج قضايا عفا عليها الزمن ولا تتعرض لدراسة القضايا المعاصرة والتي أفرزتها التطورات التكنولوجية الحديثة لمختلف محافل الحياة المعاصرة وكذلك ما يتصل بدراسة المنظومة التشىريعية للدولة محل الدراسة بل أصبح البعض يستخدم مصطلحات قانونية غير منصوص عليها في المدونات التشىريعية لذلك القطر. ناهيك عن عدم الإحاطة بالواقع التأريخي لنشأة الظاهرة القانونية محل الدراسة وتطورها وإسقاطها على أرض الواقع التأريخي، وكيفية الاستفادة منها في الحياة المعاصرة، فقد أضحت بعض الدراسات سردا جافا لذلك التأريخ.
وأما أزمة الوظيفة فالقانون وضع لكي يحقق سعادة المجتمع ويحافظ على كيانه واستقراره وأمنه.
فالقانون نظام يراعي المصلحة العامة، وفي الوقت ذاته يسعى للموزانة بين المصالح الفردية والمؤسسية، لبناء دولة عصرية كيانها الضبط والربط لأنها دولة القانون.
والأمر الذي يعيب تدريس القانون غياب المنهج النقدي عن ميدان الإبداع والابتكار والإنجاز، فقد انخرط وانصهر الدارسون للقانون للحفظ الأصم والتقليد الأعمى والمحاكاة للغير بدون وعي وتفكير وتحليل وتطبيق للمعارف والعلوم، فقد شاب هذا المنهج التطويل والتكرار والاسهاب في تناول موضوعاته، وشرح نصوصه وتفسيرها، وعدم الاهتمام بتدريس المشتغلين بالقانون بطرق البحث القانوني، وجعله منهج حياة الدارسين وتعوديهم على دراسة النصوص القانونية والتعليق عليها، ومحاولة التحليل والفهم للنصوص وفق سياقات اجتماعية بما يتفق وروح الجماعة و استقراء الواقع والنظر في النصوص القانونية في محاولة للوقوف على ما شاب بعض النصوص من قصور في الصياغة. واقتراح حلول عملية للمشكلات بما يتناسب ومتطلبات الحياة الاجتماعية الجديدة، مع الاستفادة من الجهود السابقة في الميدان، بفتح قنوات الحوار والدخول في عمليات مثاقفة حضارية، تجمع بين الفهم والنقد
والتحليل.
ولعل الأمر يتطلب استخدام استراتيجية تدريسية حديثة والتي منها استخدام أسلوب الحوار والنقاش والتعلم الجمعي والتعليم بالاكتشاف، التنويع بين الطريقة الاستقرائية والاستدلالية الاستنباطية، واستعمال أستراتجية التعليم ما وراء المعرفة أو الإدراك في المواقف التعلمية المختلفة، وتوظيف التقنيات الحديثة في مجال التعليم واستخدام السقالات التعلمية وتعزيز ثقافة البحث العلمي وترسيخ مبدأ التعليم عن طريق المشاريع، والذي يؤدي إلى ردم الفجوة بين العمل والتعليم ويجعل المتعلم قادرا على دخول سوق العمل بكل ثقة وتحد
وإذا عرجنا على أبرز الطرق المتبعة في تدريس العلوم الإسلامية والقانون فنجد أن أبرز الطرق المتبعة في التدريس هي الطريقة التقليدية أو الأسلوب الذي يعتمد على المحاضرة بصفة أساسية ويستخدم الأساليب الأخرى التي تتبع هذا الاتجاه، ويمكن عزو هذه المشكلة إلى عدم اطلاع المدرسين ومجاراتهم لما يستجد من طرق ومناهج حديثة في التدريس، فطبيعة تلك المواد تتطلب مدرسا ذا عقل متفتحا متقنا لأساليب التدريس الحديثة، قادرا على صياغة المعلومة وتقديمها بأسلوب بعيد كل البعد عن السرد والتقليد وحشو الأذهان.
إن تلك الدراسات اليوم تخرج حفظة ونسخا متماثلة من الأشخاص حملة معلومات ومعارف في الأعم الأغلب، تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل وينمون التفكير. فكم تحتاج المجتمعات إلى طلبة مفكرين ومؤصلين لفقه الواقع والنوازل اليومية المختلفة التي تلامس حاجات المجتمع.
فالحاذق الفطن إذن هو من يستفيد من أكبر قدر ممكن من تلك الأساليب والمبادئ حسب ما تقتضيه الظروف وتمليه المواقف، على أساس حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول “الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها أخذها” [رواه الترمذي وابن ماجه] .
ويقول مولانا صاحب الجلالة حفظه الله ورعاه :”لقد وضعت قوانين لهذه الدولة بموجب مراسيم سلطانية صدرت بشأنها وتصدر من حين لآخر للمحافظة على مصالح هذا الشعب، فعليكم أن تدرسوا هذه القوانين كل فـي مجال اختصاصه دراسة وافية، وألا تتجاوزوا فـي المعاملات أي نص لتلك القوانين. بل يجب التقيد بها واتبـــاع ما جاء فـي نصوصها” (بتاريــخ 15/5/1978)
ولنردد دوما نحو تعليم ذو جودة عالية يلبي متطلبات التنمية المستدامة انطلاقا من الرؤية السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله، في الاهتمام بالعلم والتعليم وذلك عبر مقولته الخالدة: “إننا نولي التعليم جل اهتمامنا ونسعى لتطويره وتحسينه ورفع مستواه وتحديث المعارف وتعميقها وإثرائها وتكييفها مع عالم دائم التغيير انطلاقا من الأهمية التي توليها السلطنة لتنمية الموارد البشرية وترسيخ منهج التفكير العلمي وتكوين أجيال متعلمة تشارك في عملية التنمية وتتعامل مع المتغيرات والمستجدات المحلية والعالمية بكل كفاءة واقتدار “.
د. عبدالله بن سليمان بن عبدالله المفرجي دكتوراه قانون، ماجستير التربية تخصص تكنولوجيا التعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق